الماء أصل الضياء والقيامة تقوم بجفاف الفرات …
وتحول دجلة عن مجراه
كتاب المندائيين الآرامي (( الكنزا ربا )) مترجماً للعربية - اليمين
رشيد الخيون
كتاب المندائيين المقدس (( كنزا ربا )) أو ( سدرا آدم ) هو الصحف الأولى ن الصحف التي نزلت على آدم وشيت ونوح وسام ، هكذا يعتقد المندائييون ، أن كتابهم أول الكتب السماوية . ظل ينسخ ويقرأ بلغتهم المقدسة اللغة المندائية ، وهي فرع من فروع الآرامية ، ولم يترجم إلى العربية ككتاب كامل إلا في السنوات الأخيرة ، بعد أن كان مشروعاً مؤجلاً ، وربما كان من أسباب تأجيل ترجمته ، إضافة إلى المحافظة على نسخه بلغة الأم الدينية المندائية ، البعد عن تجاوزات الآخرين . فالمحيطون من الأديان اخرى ظلوا يتعاملون مع المندائيين على إنهم يعبدون مائناً إسمه (( شميدهيه )) ، وذلك لجهلهم للعبارة المندائية (( بشميهو إد هيي ربي )) والتي تعني بأسمائك العظمى أبتهل إليك ياربي . والصابئة يسمعون هذا الخطأ ويضحكون من جهل المحيطين بهم ، فأرادوا لكتابهم أن يظل مبهماً على الآخرين ، لاسيما وهم لا ينون التبشير بدينهم .
غير أن ما يلفت النظر أن الكتاب المذكور ترجم إلى اللغة السويدية 1816 وإلى اللغة اللمانية 1825 ، لكنه لم يترجم إلى العربية حتى يطلع الجوار على مكون ديانة مواطنيهم القدماء . تبنى تلك الترجمات مستشرقين سويديون وألمان ، ولم يمن الهدف إشاعة هذا الدين ، وإنما كان هدفاً أكاديمياً بحتاً .
لو كان الصابئة المندائيون غير متحمسين من المحيط لإندفعوا إلى ترجمة كتابهم إلى لغتهم الحكية العربية ، ولكانت تلك الترجمة سراجاً يضيء الضلامات التي حلت بهم من جراء إعتبارهم عبدة كواكب وأصنام، ولما إحتاجوا إلى مقاضاة المؤرخ عبدالرزاق الحسني في الثلاثينات أمام المحكمة ببغداد ، بعد أن إشترطوا أن يقرأوا نصوص كتابهم المقدس باللغة الآرامية ، فكان الأب أنستاس الكرملي مترجماً في قاعة المحكمة .
يتألف النص الآرامي للكنزا ربا من 600 صفحة ، وبالتأكيد أنه ليس نسخة واحدة لكننا نعني النسخة التي ترجمت إلى اللغة الألمانية ، وكل صفحة تتضمن عشرين سطراً ، وكل سطر عشرة كلمات ، وإجمالي كلماته بلغت 120000 ألف كلمة ، ويتألف الكتاب من قسمين ، يضم كنزا ربا الأيمن ثمانية عشر جزءاً ، وموضوعة : الخلق وتكوين عالم النور وعالم الضلام وخلق الأرض والإنسان ، ويضم القسم الأصغر ، كنزا ربا الأيسر ، ثلاثة أجزاء ، موضوعه مصير النفوس ( نشمثا ) ، وعروجها إلى عالم النور . أما النسخة العربية التي صدرت ببغداد العام 2000 ، فتتألف من حوالي 446 صفحة ، ضم كنزا ربا اليمين تسعة عشرة كتاباً وكنزا ربا اليسار ثلاثة كتب فقط .
إن وجود عالمي النور والضلام ، كمفردات رئيسية في الكتاب ز لا يعني أن المندائببن ثنويين ، مثل الزرادشتيين والمانويين ، بل أن الضلام عندهم هو العالم السفلي ، عالم الأجساد ، التي تبتلي بها النفوس ، وإن النور هو العالم العلوي الذي يقهر الضلام المتمثل بكائن الروهة . تبدو النصوص الخاصة بالخليقة والصراع بين الخير والشر ذات أصول سومرية بابلية ، إلا أن التوحيد فيها يبدو نقياً من أي شائبة من شوائب تلك الديانات . وإن النص المندائي يقترب من النص السومري ، بإستخدام الأبدال في أماكن الكلمات ، وربما هذه ميزة من مزايا اللغات القديمة ومنها اللغة الآرامية ، على شاكلة : الماء أقدم من الضلام ، أقدم من الضلام الماء .
فالحي القديم هو الله الأحد ، الذي لم يولد ولم تسبقه مادة أو فكرة في الكون ، والكون تحقق بأمره ، ومن عالم النور المملوء بالأثيريين ( الكائنات النورية ) تحقق وجود عالمي السماء والأرض . فالحي العظيم يهيمن على كل تفاصيل الكون . ويعرف بالكبيرة والصغيرة من عوالمه ، وبأمره ظهر المانا العظيم ( ملاك نوري سامي ) أو يعني الحياة ، ثم مندا إدهيي وهو عارف الحياة ، ويوشامن ملاك يمثل الحياة يمثل الحياة الثانية ، وأباثر ملاك يمثل الحياة الثالثة ، وبثاهيل الذي يمثل الحياة الرابعة ، حيث خلق العالم الأرضي بثلاث صيحات عظيمة ، وكل هذا بأمر من الحي العظيم وبجهود الملائكة الأثيريين المذكورين .
تظهر في كتاب المندائيين المقدس جدلية العلاقة بين الماء والضياء أو بين النهر والنور ، فالمادة الأولى في الكون هي الماء ومنها خلق الحي العظيم القديم الضياء ، وهو الماء الطاهر الذي تعمدت أو إصطبغت فيه الكائنات النورية قبل نزولها إلى العالم السفلي حيث الظلام الذي لا أحد يعرف لماذا خلق غير الحي العظيم الذي هو ( خارج الأكوان يقف من خارج الأكوان ينادي ) الكامل المنزه عن كل نقص . النور السرمدي ( لا حد للنور ، ولا يعرف متى تكون ، وما كان شئ هناك قبل أن يتكون الضياء ، وما كان شئ هناك قبل وجود الحي العظيم الجبار ، الماء أقدم من الظلام ، أقدم من الظلام الماء .
وتظهر فيه جلياً قصة الطوفان وبناء نوح للسفينةالعظيمة ، ومعراج دنانوخت ( النبي إدريس ) ، وعروج النفس في المطراثي ، حيث تطهر من الذنوب ، وتعاليم ووصايا وتسابيح ، ما يلفت النظر أن الكتاب المقدس لا يسمي القوم بالصابئة ، بل يسميهم بالمندائيين ، أصحاب المعرفة ، ةبالناصورائيين أي الضليعين في الدين المندائي . وبالتالي فتسمية الصابئة دخيلة عليهم ، دخلت في أجواء خلط المؤرخين بينهم وبين الصابئة الذين عرفوا بعبادة النجوم والكواكب ، والصابئة كتسمية عامة هم المنحرفون عن ديانتهم ، لكن التسمية وإن كانت مقحمة على المندائيين فتعاملوا معها كأمر واقع ، فقبلوها أسوة بالفرق والمذاهب التي تقبلت تسمية الآخرين وإن كانت مجحفة .
ليس هناك معلومات وافية حول كتابة الكنزا ربا ، مع أن في الروايات أشارت غلى حضور الكنزفرا المندائي لمقابلة قائد الفتح العربي الإسلامي وبيده كتابهم المقدس ، وإن النديم في الفهرست أشار إلى عثور مولى هارون الرشيد على كتاب للصابئة ، ترجم بعض فصوله . أما المندائيون فيعتقدون أنه أول كتاب سماوي ، نزل على آدم ، ثم إكتمل بصحف من بعده . عموماً إن ترجمة الكنزا ربا ستساهم في رفع الحيف التأريخي عن هذه الجماعة ، فلو قرأ عبد الكريم الشهرستاني صاحب ( الملل والنحل ) هذا الكتاب ما رمى الصابئة بما رماه من جحود بالخالق وتبنى عبادة الأصنام ، مع إنهم من أشد الاديان رفضاً للأصنام ، والماء عندهم هو أساس النور ، ومنه كانت الحيوات الأربعة ، فمن جهل سماهم البعض بعباد الماء . ولو إطلع فقهاء عصرنا على هذا الكتاب لتأكد لهم أن الصابئة موحدون ، وتوحيدهم نقي نقاوة النور . وإن شاعراً أبحر وراء الأسطورة ، مثل السياب ، لو قرأ هذا الكتاب لنحل من أجوائه ما نحل ، ففيه ما يغري من المفردات والعبارات ، حيث بحار النور التي يسبح فيها الأثيريون ، والمياه النقية ذات المنابع المضيئة
وبدون الدخول في تأريخ المندائيين وبمكانهم الأول ، في أن يكون فلسطين أو العراق ، إن الكنزا ربا مملوءاً بأحاديث عن الفرات ودجلة ، ولصلتهم بوجود الرافدين ومائها المجتبي ، جاء في كتابهم :
إن الحياة تدفقت من ماء النهرين ، وإن القيامة ستقوم بجفاف الفرات وتحول دجلة من عن مجراه ورد في النص : ( يجف الفرات من منبعه إلى مصبه ويجري دجلة خارج مجراه ، إلى أن تجف جميع المياه في البحار والأنهار والجداول والعيون والآباربعدها ) . أما النور الذي مادته الأولى الماء فأصبح ثياباً بيضاء نقية يلبسها المندائيون عند الصعود إلى عالم النور ، وهي الثياب المعروفة بالرسته .
في هذا الكتاب حافظ المندائيون على وجود اللغة الآرامية التي فسحت المجال بالعراق للعربية ، وظالت حية في طقوسهم ، ونرجو أن لا تكون ترجمة الكتاب إلى العربية آخر العهد مع بقايا الآرامية المتمثلة في لهجتها الشرقية المندائية .
|