" فكر الناصروثا "
تأملات
بأمر الحي العظيم وسيد خزائن المعرفة أنزلت الشريعة المندائية ( المندا ) المعرفة الحق الى العالم الارضي مع اتمام خلق آدم ابو البشرية لتحتويه مع ابنائه وسلالته وهم بفكرهم وسعة بصيرتهم تعرفوا عليها وآمنوا بمبدئها الاساسي ، وتسلقوا سـُلمها المعرفي ( الناصروثا ) وغاصوا بمكنون علمه ومعرفته الربانية لبلوغ الحقيقة الحـق
الناصروثا : فكر لاهوتي يحتوي على المعرفة الربانية وقانون نظام حياتي واخلاقي ابدع في فعله ، ولكي نفهمه نسأل الخالق العظيم أن يبعث لنا شعاعا ً من ضيائه ليمنحنا القدرة لفهمه بفكرنا وتمجيده بقلوبنا ، [ سأمنحك خـُفاً من ضوء ، يسمحُ لك بالمشي على الاشواك وعلى كل نباتٍ شائك ... فالارض زائلة ، وخفُ الضوء لايزول ] دراشا اد يهيا ، لانه ماخفي عن الحس يدرك بالعقل الذي هو بدوره خفي ، هل الحقيقة خفيه او بعيد عنا ؟ لو نظرنا بفكرنا سوف نعرف ان الحقيقة واضحة وقريبة منا موجودة في كل الاشياء من حولنا بحيث نراها من خلالها وهذه احدى نعم الخالق الذي وضع حقيقتة بكل ما في الوجود ، الوجود الذي من فيض وجوده الكلي انبعث لذا ترتكز قاعدة الناصروثا البحث في أصل كينونة الاشياء التي منها انبعثت الحياة وبهذا يمكن ان يطلق عليه ( قانون العودة الى الجوهر ) [ خالق كل شيء ، صانع كل شيءٍ جميل ] ،
يعود اصل هذا الفكر الى جذور سماوية لانه امتداداً لناموس الحق " كشطا " الناموس المطلق لنظام الكون الذي كان منذ الازل وله دور رئيسي في انبعاث الكون والخلق حيث يمثل الفعل ـ الحركه ، ومن اتحاد العقل العظيم الأعلى مع الفعل خرجت الكلمة العظيمة التي بها بعثت الحياة ،[ وبكلمة منك خلق الاثري والعوالم النورانية ] الكنزا ربا { ولكن ما أصل الكلمة العظيمة ؟ ، ومن احتظنها لتنمو وتتجلى ؟ والى اي شيء تجلت لتكون متمكنة من خلق العوالم والكائنات النورانية ؟ ، هذه الاسئلة وغيرها تأخذنا الى مفهوم ناموس اخر من نواميس الخالق لخلقه بحاجة الى تامل خاص } ، والشيء الذي يجعل مفاهيم ( ملكات ) الكشطا اللامحدودة تسير في نسق واحد وظمن نظام كوني شامل واحد هو قانون( اللوفا ـ الاتحاد ) الذي يرافق الكشطا منذ الازل حيث مهمته هو
ربط اجزاء الكشطا بالكل في وحدة متناغمة وحفظ نظام سيرها في الوجود ، وبهذا يكون فكر الناصروثا واسع لاحدود لفظائهِ ولا عدد لملكاته ولا مقياس لبلوغه لأتصاله بالحق ـ الحقيقة الكشطا ، اعطي للنفس البشرية كسلاح به تثبت وجودها وطبيعتها الإنسانيه ضد قوى الشر ، حيث ان كل المخلوقات منحت لها روح وهي قوة الحياة ولكن الإنسان فقط موزون بملكاته العقلية والاخلاقية ، وكان هذا طلبها الاول حينما الى الجسد دخلت لتحيا به الى ان ينتهي اجلها [ أيها الصالح السني السبيح ـ يارسول جميع المصابيح إن كُنت تريدني أن أدخل هذا الوعاء فهبني سلاحاً أدفعُ به البلاء ، فسيتكاثر من حولي الأعداء ] وجاء الرد [ يانشمثا الحي الحرة ... يابنت المصابيح الثرة ... أي سلاح تبتغين أمضى من السلاح الذي تحملين ؟ معكِ الناصورائية الكلمات الصادقة الحية ... هي سلاحكِ الجسور الآتي إليك من بيت النور ] الكنزا ربا .
يخاطب الفكر الذات المجردة من غلافها الآدمي لذا شرحه اوتوضيحه يتطلب طاقة روحية صافية وذهن واسع المدى وهنا يتطلب ايظاً اسلوب كلامي يوازي ماهية هذا الفكر وغايته ، اسلوب خاص يمكن القول عنه اسلوب معرفي حكمي " تتوحد به الماهية والكلم " اسلوب لا يفهمه السامع كما تفهم الدروس المنهجية والكلمات المخزونة في القواميس عند المراجعة والبحث عن المعنى ، بل تفهم رحمتاً ، وغبطتاً ، ورظواناً وشعاع أمل وحب تنبض به العروق وسراً يختلج في اعماق النفس ، ولأول وهلة سماعه ينتاب احساس بربانية الصفات ، ويحس انه يرتفع منسجماً بالاتجاه اليها والرجاء فيها مستشرق اليها بقلبه ويتفتح لها بتحكم افكاره ويعرفها حقيقة حية تمليء الكون العظيم ، و بما ان فكر الناصروثا بحر لا حد له اذن كل ناصورائي يبحر في مكان ما من بحر الوجود العظيم ، ولهذا السبب لاتوجد خطة او طريقة عامة يسري عليها جميع الساعون في البحث ، فالمعرفة التي يحُصل عليها تكون مكملة للأخرى أو تفتح مجال معرفي آخر ، لأن كل ما يحصل عليه ما هو إلا اجزاء من كل لاحدَ له ، كلها تحضى بدراسة عميقة من اجل الوصول الى جوهرها الواحد ما دام المجال واحد يكون الاستنتاج واحد ؛ ويؤكد الفكر المندائي على أن الإنسان ليس بمخلوق عابر ظهر في الوجود بل ذا ماهية متكاملة ، صاحب كرامات وملكة عقلية وذهنية وعلى هذا الاساس تقوم القاعدة بدراسة الوجود الكلي الكامن في الإنسان و بلوغ حقيقة هذا الوجود المتماسك بوحدة منتظمة تمثل الاتحاد ـ ( اللوفا )
وان يحيا هذا المخلوق حياة سليمة حيث الاهتمام بمصيره وتنظيم سير حياته مع قانون نظام الحياة و تحقيق كينونته الإنسانية ، لكي يكون القانون الداخلي الذي ملكه ينبع من أعماقه برضى وقناعة ، وليس فرضاً خارجياً ، والتركيز على ذاته الأصلية التي هي لب معنى وجوده الإنساني ، وتتحقق هذه الغايات من خلال المفاهيم او الملكات التي احتواها هذا الفكر ومنها : الحق الحقيقة العهد والعلم والمعرفة ، والفكر والايمان والعدل والاخلاص والحرية والقرار والاختيار والمسؤولية والمحبة والثقة والتامل والتسبيح والثقة والاتحاد ووو ... لاعدا لها ، تعتبر البنة الإساسية لبناء الإنسان الذي بها يثبت وجوده ويحقق ذاته ( كما هو واضح في النصوص الدينية ) .
بعد ان جائت نشمثا او( النسمة) من عوالم النور ودخلت الجسد ، جائت معها كل الاسرار الموجوده في ارض النور
من الضياء ومن النور ومن القسط ومن الاتحاد ومن الاتقان ومن السلام ومن كل ما هو موجود في ارض النور . الكنزا ربا
من احسان الخالق بخلقه هو الوحدة في خلقة لا تمييز ولا فرق متوحدين بهذه الملكات والماهية الإنسانية الواحدة ، هل يعني الكل يمكنه ان يكون مندائيين وناصورائيين ؟
الناصروثا وكما مبين ، هي امتداد لقانون الكشطا بكل مايحتويه من نعم ربانية ،( مثلما عالمنا المادي امتداد لعوالم نورانية عليا ) ، ومن هذا البعد الغير متناهي اكتسب هذا الفكر ميزة المطلق ، واذا انقطع هذا الامتداد تصبح الناصروثا قانون منعزل ومجرده من صفة الابدية فقط يكون ملكات لماهية إنسانية وقانون نظام حياتي يقترن وجوده بودجود العالم المادي وبالتالي يعني قطع سبل الخلاص والارتقاء الى الحياة العظمى ـ عالم النور .
عندما انطلق قانون نظام الحياة العظمى ـ الكشطا الى عالمنا انطلقت معه إمكانيات الاتحاد والتواصل به ، ويكمن سرها في " المصبتا ـ التعميد " هو طقس سماوي نشأ في عالم النور قبل خلق العالم الارضي وهو هبة الخالق لأبناء آدم " وآدم مبارك اسمه " أول من تعمد بهذه المصبتا بعد ان نهض وتعرف على ما يحيطه وادرك بفكره واعترف بقلبه فسجد خاشعاً لخالقه ، فظهرت له المعرفة متمثلة بالملاك الاثري جبرايل " هيبل زيوا مبروخ اشمي " ليعلمه المعرفة واسرار الحياة والشريعة المندائية واحكامها وقواعدها وعندما تفتح فكره واتسع ذهنه اكتملت لديه المقومات الاساسية لبلوغ فكر الناصورائية من علم ومعرفة وحكمة وارشاد ، منحه الثقة ثم عمده بالماء الجاري ومدت له يد الكشطا اعلاناً رباطه مع قانون الحياة العظمى واتصاله مع مثيله ( دموثا ) في تلك الحياة .
لهذا تركز الديانة المندائية على تعميد الأبناء في الشهر الاول للولادة ، لان التعميد اي المصبتا هو من الثوابت المهمة وركن أساسي من اركانها به تظمن حقه في الوجود الكلي وتحقيق الارتقاء والخلاص الابدي ، ولكن تعميد الطفل يتصف معنوياً ورمزياً لافعل ، لأن الإنسان في بداياته الاولى شيء تابع للوالدين ، وعلى سبيل المثال القيم في مرحلة الطفولة تتسم بالعيانية والخصوصية نظراً لعدم نمو القدرات العقلية والمعنوية فيما بعد عندما تنمو نعمه وتتفتح قدراته بدرجة كافية يواجه نفسه ويتعرف عليها وعلى ما يحيطه يصبح إنساناً راشداً دخل مرحلة الشمول والمسؤلية ، بوقوفه في مجال فعل القانون يقرر ويختار ويتحمل مسؤلية اختياره وعليه تترتب المراقبة ومحاسبة الاخطاء ، وديوان أباثر( الطريق عبر المطهرات ) غني ويختص بهذا المجال وهذا مقطع منه [ هناك ثلاث حبال متدلية من الميزان ( حبال العقاب ) : واحدة رهيمات ، واحدة شارات ، واحدة بيهرات اي واحدة للمحبة ، واحدة للقوه ، واحدة للاختيار ] ،
بهذا نستنتج من أن المندائية فقط تملك الوسيلة التي تمكن الراغب من تسلق سلم الناصروثا ليكون مندائي ناصورائي ، و الشخص المندائي الذي لم يتسلق سلم المعرفة واكتفى بالثوابت الأساسية ، اي (التوحيد ) و (المصبتا ـ التعميد ) و ( الرشامه ـ الرسم بالماء الطاهر اي الوضوء ) و (البراخه ـ الصلات التبارك ) و (الزدقا ـ اعطاء الصدقة ) ، هي ايظاً ستمكنه وستعينه في طريق معراجه الاخير ، حيث قال رسول النور الملاك (( هيبل زيوا مبارك اسمه )) في دراشا اد يهيا :
( ناديتُ وقلتُ للناصورائيين الصادقين المؤمنين الذين هم قرب الحدود : ستعينكم الحدود وتساعدكم ، لتصعدوا متطلعين الى عالم النور ..... ان الذين يبتعدون عن الحدود ، فالثوابت ستعينهم ، أما الذين يبتعدون عن كليهما ، فأنهم سينتهون الى جبل الظلام ، لايأملون سوى الموت الثاني ، وعيونهم لاترى النور ، ولا يجدون لهم موطيء قدم )
الناصورائي !
إنسان عرف حقيقة ذاته وحقيقة الوجود اللامتناهي عرف عظمة خالقه بعقله وفكره نمى بداخله شعور الابداع والعطاء والتوق للمعرفة وهذا استلهمه من فكر الناصروثا وسعادته هي بلوغ جوهر الاشياء والوقوف أمام حقيقتها المحجوبة وراء الظاهر ، وسعيه هذا أثمر منه حكيم زاهد تتطابق أفعاله لأفكاره الراقية باستخدامه الصحيح لملكاته ونعمه الربانية وبتحرير وتطهير ذاته من الشواءب والمثقلات التي تعترض طريق صعوده سلم المعرفة فصار من نخبة الاصفياء والانقياء الناصورائيين " ومفردها ناصورائي " متفتح ، ضليع في الشريعة ومدرك اسرارها وعندما يبلغ مجال حدودها يكون في حضرة الحق موعود بصعود ميسور ومكانة يستحقها في رحاب عوالم النورالابدية ،
( ناديتُ وقلتُ للناصورائيين الصادقين المؤمنين الذين هم قرب الحدود : ستعينكم الحدود وتساعدكم ، لتصعدوا متطلعين الى عالم النور ..... )
يضع فكرالناصروثا الناصورائي الناسك في قلب قانون الوجود الذي ينظم سير الحياة وفي هذه الحالة يكون قد ادرك بأنه واقف ضمن هذا الفعل لذا فالواجب هو الحذر بتفكيره وتجنب التفكير بأنفعال احاسيسة وشعوره ورغباته وعليه الابتعاد عن اي مؤثر ناتج من القانون الطارد الذي يخرج من العالم المادي وإلا يكون قد دخل قانون الخطيئة ، عليه أن يحتفظ بكينونة حكيم زاهد متوغل في عمق ملكاته الكونية وغايته السير بانسجام والفة مع الفعل الكوني ، ليتمكن من فهمه وسبرغورعمقه وبهذا يكون قد حقق الصفا الروحي لكي يرى الحقيقة بفكره وينطقها بكلامه حيث ان الحياة أصلها اتحاد العقل والفعل .
حرص مريد هذا الفكر على طبيعته المتواضعة يرفض ان يعطي لشخصه منزلة الناصورائي لأن قوله هذا يساوي قول " انا بلغت الحقيقة الكامنه في الوجود " واعترافه هذا يناقض الاعتراف بأن بحر الناصروثا لاحد له ، لذا من غير الممكن ان يدرك الناصورائي الحد الذي بلغه من العمق الغير محدود ! لذا تـُحتم عليه اخلاقيته التي امتاز بها ان ينعت شخصه ( بالعبد الفقير ) وهذا جاء من وعيه ِ ان تبحره مهما عظم َ لم يصل الى مايطمح إلية من التكامل المعرفي كـُلما سبر غور المعرفة ازدادت تساؤلاته حيث تتفاوت جوانب أدراكه للحقيقة وآثارها كلما تعمق اكثر فتحت أمامه ابواب معرفة جديدة تختلف عن مدركاته السابقة اتجاهاً وعمقاً ، حتى لو خلقت عقول خاصة لهذه المهمة تكاد تصل الى غاية الرقي ّ كعقول نورانية وملائكية ، تبقى هناك ثغرات وفجوات وابواب مرصده بالف الف سؤال تقف في طريق الوصول للقمة ، لسبب واحد هو ان الحقيقة كامنة في العقل العظيم ـ السر العظيم باعث الحياة والخلق والعارف بأسرارها وهذه ميزة العجب بالالوهية التي تكمن في سرها ، ودور الناصورائي هو بمثابة قناة لإستمرارية النظام والسلام والجمال في عالم مضطرب ومتخلخل وتلك هي الاخلاق الحية التي تعيش في اللحم والدم وجدها بصفاته واخلاقه ليحياها ويعيش بين حقائقها وهذا رمزالفخر والقداسة بعينها لكونه من نور وظلام ومخلوق من تراب وفي عالم باطل وخرب ، يتميز بطبيعة وصفات اهل النور ، وهو القادر على الافساد وارتكاب الخطيئة لكن طموحه الطيب وابداعه قاده الى العلو فصنع مجده في مكان زائل لا مجد له .
مع تحيات
رمزيه عبدالـله فندي |