|
|
|
ـــ قتلوا لحظة الوداع ـــ
ألكاتبة أسماء ألرومي
أحداث هذه القصة عن صديقة ومعاناتها حين ذهبت لتزور أمها التي كانت ترقد على سرير مغادرة الحياة
تهيأت نسرين لحمل حقيبة سفرها لتتوجه لسيارة الأجرة التي تنتظرها لتقلها إلى مطار ستكهولم ، كان ذلك في الساعة العاشرة ليلاً وحين جلست في السيارة جرّتْ نفساً عميقا ، أخيراً أنا في طريقي إلى المطار ، تذكرت معاناتها في الحصول على التذكرة فقد كان ذلك في الشهر السادس ومع بدء العطلة الصيفية وكم كان صعباً الحصول على تذكرة إلى سوريا وفي مثل هذا الوقت ، وكم من الساعات الطويلة قضتها نسرين في البحث والدوران على مكاتب عديدة للخطوط الجوية دون جدوى حتى كادت تيأس . كم كانت قلقة ومتعبة بعد أنْ تلقّتْ نداءً من أختها في الإسراع بالحضور لأن والدتها في أيامها الأخيرة وهي تطلب رؤيتها ، وأخيراً وبعد أربعة أيام من البحث المتواصل وبمساعدة الأصدقاء حصلت على هذه التذكرة ومن شركة خطوط تركية .
كان الألم يعصر قلب نسرين وهي تتذكر معاناة أمها ومرضها الطويل والذي تسبب في انسداد شرايين الساق ومشاكل مؤلمة ، ثم إصابتها بعجز في الكلى وكانت الأم رغم مرضها على إتصال دائم بابنتها المقربة إلى نفسها لتغرّبها ومن سنين بعيدة . وعدتها نسرين بأنها ستكون عندها في العطلة لانشغالها الشديد قبل ذلك . في أحدى المكالمات الأخيرة أخبرتها والدتها بأنها كانت مع العائلة لحضور احتفالات عيد العمال رغم إنّ مكان الاحتفالات لم يكن قريباً ، وقد أسعد ذلك نسرين ولكنها شعرت في المكالمة بأن أمها قد تقصّدت في إطالة الحديث معها رغم إنها تبدو متعبة وقد اقلقها ذلك كثيراً . أحسّت نسرين بغصة في صدرها حين تذكرت كل ذلك وهي في طريقها للمطار .
حين وصلت كان لديها وقتاً طويلاً فموعد طائرتها في الساعة الثانية صباحاً جلست لتنتظر ، أفكار متضاربة أخذت تدور في راسها ، فهي رغم كل ما حدث لم تكن يائسة وقد فكّرت بأنها قد تستطيع مساعدة والدتها لتتحسن حالتها .أخذت معها الكثير من الأدوية وبمساعدة بعض الأصدقاء من الأطباء . ولكن النداء يقول إن أمها في وضع ميئوس منه فكيف ستتحسن؟ كانت تتمتم يا إلهي أرجوك ساعدني فقط لألحق أمي في ساعات الوداع الأخيرة ، حاولت حبس دموع ساخنة أخذت تحرق وجنتيها ، كاد قلبها يتفجر بين جنبيها حين جال بخاطرها بأنها قد تُحرَم من ساعة الوداع الأخيرة هذه ، لا تدري لمَ هذه الفكرة تسيطر عليها فجأة ، أهو القلق ، اهي اللهفة والحزن الشديد ، أم هي بعد المسافات ، أم ماذا ؟
وعادت لتتمتم ساهمة ولكن يا إلهي كل ما أرجوه ولتأخذ الحياة كل ما تريده مني لتمنحني فقط لحظات لإلقاء نظرة وداع أخيرة على أمي التي تنتظرني .
صعدت نسرين الطائرة وفي الساعة السادسة صباحًا وصلت أنقرة . كان عليها الانتظار لعدة ساعات ، بعدها استقلت طائره متوجهة إلى ديار بكر وقد وصلت في الساعة الثانية عشرة ظهراً . من هناك أخذت سيارة أخرى لتوصلها إلى منطقة نصيبين في الحدود التركية السورية .
سارت الأمور مع نقطة المرور بصورة طبيعية . عبرت إلى القامشلي حيث أهلها هناك في الانتظار وحين وصولها رأت من خلف نقطة التفتيش أختها وابنة أختها الأخرى . طلبوا منها أنْ تحاول الإسراع في الخروج فقد هيأوا سيارة وهم بالإنتظار ، كانت آثار التعب بادية على وجوههم وفهمت منهم بأن وضع الأم سيء للغاية وهي تفتح عينيها فقط لتسأل عن ابنتها إنْ كانت قد وصلت أم لا .سلمت نسرين جوازها إلى الضابط المسئول وهذا بدوره أخذه إلى المسئول الأكبر وبعد قليل عاد ليقول أنا آسف يا نسرين أنتِ لا تستطيعين الخروج لأن هناك أمراً من الجهات العليا في الشام باعتقالك وهناك تقارير إخبارية عنك .
صعقت نسرين عند سماعها ما قاله الضابط وتقطعت الكلمات على لسانها وهي تردد ، تقارير، معتقلة، ثم أفاقت فجأة حين تذكرت والدتها لتقول : ولكن أرجوك يا حضرة الضابط دعني أذهب ولو لساعة واحدة فقط لأرى أمي التي تحتضر ، أتوسل إليك أن تساعدني ، فلم يعد يهمني شيء سوى رؤية والدتي ، ثم لكم ما شئتم ، إعتقال ، قتل ، فقط امنحوني هذه الفرصة القصيرة . أجاب أحدهم ولكنها أوامر عليا وأية مخالفة معناها الطرد من العمل
قادني الآخر ليجلسني في مكان قريب قائلاً سأكتب الآن إفادتك ، ثم همس إنّ وضعك يا نسرين صعب . حينذاك تذكرت إنّ معي تلفون نقال مع أرقام كثيرة لأصدقاء في السويد ، طلبت الذهاب إلى الحمام ، كنت مرتبكة جداً ، بمن سأتصل ؟ اختلطت الأرقام أمامي واشتبكت مع صور أهلي المنتظرين في الخارج .. وأمي التي تحتضر ولشدة ارتباكي خُيّل إليّ إني نسيت كل الأصدقاء بعد قليل تمالكت نفسي ، إنها فرصتي الوحيدة والتي قد لا تتوفر لي غيرها . تذكرت إنّ أحد الأصدقاء صحفي ومحامي سويدي ، اتصلت .. ميكائيل أنا نسرين ذكرت أسم المكان الموجودة فيه واكملت أنا يا ميكائيل بوضع صعب ولا أعرف سبباً لكل ما يحدث لي ، شرحت له كل شيء بسرعة وأخبرته عن وضع أمي ، أجابني الصديق العزيز .. نسرين اطمأني وتشجعي فسأتصرف وبأسرع ما يمكن . ثم اتصلت بصديق آخر من السياسيين فلم أجده، تذكرت صديقتي ، اتصلت بها أرجوك اتصلي بفلان واشرحي له ما حدث لي ثم أخبرتها وبسرعة عن كل شيء ، أجابتني صديقتي سافعل ذلك حالاً ، كوني قوية يا نسرين ولا تخافي ، نحن جميعا معك .
في قامشلي أخذوا مني إفادة قصيرة ثم قالوا بأني سأُنقل إلى الحسكة حيث الأمن السياسي هو المخوّل لأجراء التحقيق . اخذوني إلى سيارة ، ركبت مع المسلحين ،نظرت حوالي ، لتلك الوجوه الصامتة والسحنات التي فقدت التعبير عن أي إحساس ، والمصير المجهول الذي ينتظرني وأمي ..حينذاك خرجت من دوامة الصمت والتفكير لأقول : ارجوكم أتوسل إليكم ، خذوني في طريقكم لأرى أمي ولو لدقائق فالبيت لا يبعد كثيراً، وجوبهت بقسوة الرفض القاطع فقد كان الضباط يخافون العقاب لم يسمحوا أنْ آخذ معي سوى حقيبة اليد الصغيرة والتي كان فيها قليل من النقود السويدية ، ولكن التلفون النقال لا يزال معي ، وجاءني نداء من إحدى الصحف السويدية ، صحيفة أكسبريسن اليومية المسائية واسعة الانتشار ، سالوا : اين أنت يانسرين قلت أنا على الحدود وفي سيارة مسلحة .. لماذا اعتقلوك .. لا اعرف الأسباب ولم يخبروني سوى عن تقارير كُتِبَتْ عني وقد منعوني من رؤية أمي . وبعد قليل وأنا في السيارة وصلني نداء آخر من السفارة السويدية ، أين أنت يانسرين؟ أين سيأخذوك ؟ قلت لا أعرف أين وإلى أين ولماذا ؟ أنا هنا لا أعرف اي شيء عن مصيري ، وأخبرتهم عن وضع أمي وكيف منعوني من رؤيتها . لا تخافي يا نسرين سنحاول مساعدتك وبكل ما نستطيعه عن طريق وزارة الخارجية ، هذا الخبر بعث الطمأنينة لقلبي . وطلبوا مني رقم الهاتف لأهلي . وبعد قليل عادوا واتصلوا بي من صحيفة أكسبريسن . ذلك الاهتمام وتلك النداءات كانت كيد سلام اعادت الأمان لقلبي الخائف المرتجف . وعدت لأتمالك نفسي لكي أستطيع مجابهة ما سيحدث لي . وبعد ساعة وربع وصلت الحسكة وكانت الساعة الخامسة مساء أدخلوني بناية الأمن لأجلس قرب منضدة كانت أمام احد الضباط ، وكانت خلفه صورة كبيرة للرئيس . سلّم الضباط الذين جاءوا معي الملف الخاص بي للضابط المسؤول . إنهال هذا الأخيرعليهم بالسباب والشتائم وقد فهمت بأن السبب كان لتساهلهم معي والسماح لي باستعمال التلفون النقال والاتصال بالسويد ، واضح إن الأخبار كانت قد وصلته .حين سمعت سبابه أدركت أنّ هذا التلفون وتلك الاتصالات هي أملي الوحيد في الانقاذ ولولاها فهم قادرون أنْ يصيروني خبراً لكان .
في تلك الأثناء دق جرس التلفون والذي لا يزال معي ، كان النداء من صحيفة آفتون بلادت فلم يسمحوا لي بإكمال المحادثة واستولوا على التلفون . دخل ضابط آخر ، ثم بدأ احدهم بالتحدث وتصنّع رنّة لطفٍ في صوته بعد ان سأل ، شاي قهوة ، أجبت : لا أريد ، استمر قائلاً اسألي نفسك لماذا أنت هنا ؟ فانت ذكية ومثقفة وأعتقد بأنكِ تعرفين سبب وجودك هنا . عجبت من هذا السؤال الغريب وأجبت مندهشة ، أنا لا أعرف أي سبب لوجودي معكم ولم يخبرني احد لماذا أنا هنا وعن أي شيء تتكلم ، وكل ما أريده الآن هو أن تسمح لي بالذهاب لرؤية أمي ، ولكنه غيّرَ الحديث بعد أنْ ضحك مستهزئا ولم يأبه بما قلته وأنا جالسة كنت ارى على شاشة التلفازالقريب احد افلام فيديو عن العراق ،كانت المناظر مرعبة قتل ، وذبح ولا أدري من أين جاءوا بها وأعتقد بأنهم تقصدوا عرض مثل هذا الفلم لإثارة الرعب في قلبي ، درت رأسي كي لا ارى هذه المناظر ،وعاد ليقول أنا أعرف السويد جيداً وقد كنت هناك وذهبت إلى المكان الفلاني وعندي أصدقاء وأقارب وأخذ يذكر لي أماكن غريبة لم أسمع بها قط . فقلت إن هذه الأماكن لا وجود لها ، أجاب كلا إنها موجودة وأنا بنفسي رأيتها ، قلت ولكني لا ادري عمَّ تتكلم وكل ما ذكرت لا وجود له ، ثم اضاف ولكني اعرف كل الأخبار عنكم وعن مَنْ في أوربا والأخبار تصلنا باستمرار . كان معك في العام الماضي كتاب كردي ، مَنْ أعطاكِ إياه أهو فلان وأينهو ، قلت : منذ زمن ترك السويد ولا أعرف أين ذهب ، ثم سأل فجأة : هل التقيت مع الط.... ، مع البا.... ، مع ... مع ... أجبته أنا لست حزبية ولا أعرف احداً وارتباطي مع السياسة السويدية فأنا سويدية وأعمل مع المنظمات الإنسانية ومع الحزب الاشتراكي السويدي وأدعم أي إنسان ومن أي جنسية في السويد وهذه هي مبادئ الحزب الذي أعمل معه . هنا قاطعني ليقول ولكنهم يقولون في أوربا وفي السويد ، الجميع يحتقر ذوي الشعر الأسود ، اجبت ولكن دستور السويد يعامل الكل سواسية ونظامهم لا يفرّق بين احد . هنا أخذ يزعق : كلا بل إن نظامهم عنصري ونحن فقط هنا اصحاب النظم الديمقراطية ، لم أهتم لما قاله ، ثم اخذت أوضح حرية تأسيس الجمعيات في السويد وتكلمت عن التقاليد الجيدة في انظمتهم التي يتبعونها من سنين طويلة فهم بلد مستقر ولم يمر بحروب تُربك استقراره .فجاة اخذ يصرخ بغضب ، أنت تقولين هذا ، أتعتبرين نفسك شيئ أنت حقيرة ، أنتِ حذائي ، أنتِ لا شيء ، قلت ولكنك أنت الذي طلب مني التكلم ... أسكتي وانهال علي بسيل من الكلمات البذيئة التي يقشعر لبذاءتها البدن وكان حين يتعب يتدخل الضابط الآخر ليكمل السباب والإهانات . كان صوته يرتعش من شدة الغضب .. هذا المجرم ، وكان يدّعي اللطف .
بدأت اشعر بعتمة وظلام التف بها كل كياني ، ثم أخذت أرتجف إذ احسستُ بحمّى شديدة تحرق دمائي ، ثم فجأة تحولت الحمّى لبرودة وقشعريرة تدك عظامي وتصطك لها أسناني ولم أعد أرى أمامي غير صورة امي التي تموت وتذكرت صديقتي العزيزة الدكتورة أم ش... والتي سمعت وأنا في السيارة في طريقي إلى قامشلي بأنها قد فارقت الحياة إذ كانت مريضة . تجسدت صورتها هي الأخرى امامي ، حينذاك شعرت وكأني مصابة بخدر كامل أنساني مَنْ اكون وأين كنت وكل شيء عن حياتي السابقة والسنين الطويلة التي عشتها من حياتي في السويد . وفقدت كل إحساس يربطني بالحياة . حينذاك أدركت بأنني مهيأة للموت . قررت السكوت فلم أعد اجيب عن أي سؤال يوجه لي .بقيت على حالتي هذه حتى قاربت الساعة الثامنة مساءً أو اكثر بقليل .شعرت فجأة بطاقة كبيرة أمدتني بقوة غريبة وإحساس هائل يحفزني على الصمود والمقاومة والتحدي ، تلك المشاعر جعلتني أرى هؤلاء السفلة أمامي على حقيقتهم التافهة فقد بدوا جميعاً اصغر من اي شيء صغير وأحقر من أي شيء حقير . عجبت لهذا الاحساس الجديد الذي تقمصني وأنا التي كنت أتوسل بهم وبحق كل الأديان وبحق الدين الإسلامي الذي يجمعنا وبحق الإنسانية إنْ كانوا لا يؤمنون بالدين فقط ليدعوني أذهب لرؤية امي . ولكني ومع تلك القوة التي نزلت علي فجأة شعرت باني فقدت كل امل لرؤية امي فقد صارت بعيدة ( وكان ذلك هو نفس الوقت الذي توفيت فيه الأم ــ
عند ذلك ضربت يدي ببعضهما بقوة وقلت بتحدي: والآن ماذا تريدون مني ولماذا أنا هنا أريد تفسيراً ، صرخ أحدهم بعد أن دفعني بقوة وضربني بشدة من الخلف ، صرخت بكل قوتي قائلة : المرأة لا تُضرب هكذا أيها الأنذال ، دفعوني إلى غرفة صغيرة كان فيها ثلاثة من المخابرات كريهي الشكل كانوا يدخنون وينفثون دخانهم النتن فوقي . شعرتُ وهم ينظرون إليّ وكأني أريد أن أستفرغ كل ما في جوفي ، هل سيهينني هؤلاء السفلة ، هل سأتعرّض للإعتداء ، ولكني سأعرف كيف أدافع عن نفسي ، إحساس بالقوة في داخلي جعلتني أشعر كلبؤة تستعد للهجوم ، صرخت وبأعلى صوتي بالضابط الذي كان يروح ويأتي أمام الباب : أخرجني من هنا وبسرعة واطلب لي محامي فأنا سويدية والكل يعلم بوجودي عندكم . انهال الضابط بالشتائم ثم دفعني لغرفة صغيرة أخرى وكان الضوء يُطفأ ويُعاد
بالدقائق لإرهابي .
بعد ذلك نقلوني إلى سجن المنطقة ، قبل أن ادخل رأيت بين جدار السجن والجدار الخارجي عدة مشانق منصوبة . تلك المشانق اعادتني حين كنت طفلة إذ كنت مع أهلي لزيارة والدي الذي سجنوه في هذا المكان وكان من الوطنيين الأكراد ، وقد رأيت نفس هذه المشانق وسمعت إنهم يشنقون السياسيين هنا .
أرسلوا على المسئولة عن النساء ، اخذتني إلى غرفة كان فيها حوالي 25 إمرأة وطفل وكانواعوائل عراقية حُجِزوا هناك ومن لغتهم الغريبة عرفت إنهم من الشبك ، أوصتهم المسئولة كي يتعاملوا جيداً معي وكانت تأمل أنْ أكافئها على تلك الوصية التي أرعبت النساء فقد ظنوا باني جاسوسة وكنت أسمع هذه الكلمة منهم ، حاولت التقرّب إليهم لكنهم لم يأمنوا جانبي كانت القذارة في كل مكان والروائح الكريهة من التواليت الموجود في الغرفة والصراصر والجرذان تتطافر هنا وهناك وقد لاحطت أن الجميع يحك رأسه .
أخذ الجميع نسوة وأطفالاً مكانهم على الحصير الوحيد المفروش ليناموا . كنت أحسّ بجوع وتعب شديدين ، جلست القرفصاء في ركن من أركان الحصير ، كنت أشعر وكأنني حيوان محاصر ومضطهد ، مهانة وبلا قيمة ، ولم يكن لي ذنب سوى إنني أحمل فكراً حراً ديمقراطياً يؤمن بخدمة الآخرين ، هذا الفكر الذي يقدس في اوربا هو السبب لوجودي في هذا المكان المهين .
كان عمري ثمانية عشر عاماً حين ذهبت للسويد وقد قضيت 26 عاماً في هذا البلد المتحرر ، كنت مرشحة للبرلمان السويدي يوماً ما وكان برنامجي الانتخابي لمناصرة المرأة المهاجرة ولمساعدة المهاجرين وللعدالة الاجتماعية وقد تعرضتُ لبعض المضايقات من العنصريين ولكني أُسنِدتُ بحملة تضامن من كل السويديين الطيبين الذين يقدسون الفكر الديمقراطي .
وقد انتخبت من قِبَل صحيفة الأكسبريسن إمرأة لذلك العام على الشجاعة المدنية والحضارية وسداد الرأي .
وأنا مع أفكاري حاولت غمض عيني لأرتاح ولكني شعرت بشئ يدبي في رأسي وحكة شديدة وكان القمل الذي انتقل إليّ. في حوالي الساعة الخامسة صباحاً فتحت الباب ودخلوا ليجروني من مكاني ولم أكن أدري إنْ كانوا سيأخذوني في هذا الصباح الباكر إلى المشنقة أو سينقلوني لمكان آخر ، كان الأمر سيان عندي فلم يعد يهمني شيء ،فقد سيطر علي الإحساس بأنني بلا قيمة ، ولا أدري كيف قتلوا المشاعر التي كانت تحسسني بأنني حرة ، كنتُ كالطير الحر أنتقل من بلد أوربي لآخر ، وها أنذا مهانة وذليلة وبلا قيمة .
دفعوني إلى سيارة مسلّحة وقالوا بأني سأحجز في العاصمة ، كان الطريق طويلاً وصحراوياً شعرتُ بجفاف شديد بفمي ولم أعد أفكر بالجوع الذي أعانيه . طلبت ماء ولكن لا ماء معهموحين لاحظوا الشحوب الشديد على وجهي والإعياء الذي بدا واضحاً علي ، أوقفوا السيارة قرب بئر وقادني أثنان من المسلحين لأغسل وجهي وأشرب قليلاً من الماء .
عدنا إلى السيارة وصلنا.....في الساعة الثامنة صباحاً ، هناك أوقفوا السيارة قرب أحد المحلات الصغيرة في السوق لشراء ما يلزمهم ، كان بين الناس الواقفين قرب المحل إمرأة ، لا أدري لِمَ شدّتْ تلك المرأة بصري وبقوة ، تطلعتً بوجهها ، ولكن وكأني أرى وجه أمي متوحداً مع وجه تلك المرأة ، يا إلهي : هل أمي هنا لتودعني أم إنني جننتُ! أم ماذا ! ولكن أمي هي التي كانت هنا للحظات ثم ذهبت . هكذا سيطر علي هذا الهاجس ليتملك كل إحساسي.
وصلنا العاصمة إلى الأمن السياسي أو ربما العسكري لا أدري ، تلقفني أحد الضباط هناك أنتِ يا حقيرة وانهالت علي الشتائم والأوامر ، إذهبي ، تعالي ، أجلسي ، قومي ، صرختُ بقوة أنا أرفض معاملتك وإهاناتك وأطلب محامي وأريد الاتصال بسفارة بلدي السويد .انهالت علي الشتائم ثم قال : سنريك الآن هذا الكاسيت على شاشة الفيديو ، أوَ لستِ انت التي تحدثت من قناة .... عن معاناة الأكراد وتشبثهم بالمهربين للخلاص ، قلتُ : انا أكدت على الناحية الإنسانية في موضوع التهريب إذ إنّ حوادث مؤلمة وكثيرة حدثت لهؤلاء المساكين فكم منهم راحوا ضحايا لهؤلاء القتلة ، حيث كانوا يُرمون في البحر ، أو يتركون تائهين فيه ليموتوا ، وأنا عملي في السويد هو الدفاع عن اللاجئين . أخذ يكيل لي السباب ، ثم قال : ربيناكم وتعبنا عليكم أيتها ..... قلتُ أنا التي تعبتُ على نفسي وقد خرجت من هنا وعمري 18 عاماً فقط
قال : ألا تحملين الجنسية السورية أجبت أجل، قال : ونحن نستطيع أن نسحب جنسيتك ، أجبت ولكن اسمعني يا هذا هناك 250 ألف كوردي في سوريا بلا جنسية فهم نكرة لا وجود لهم ، فإن سحبتم جنسيتي فأرجو إعطائها لأي فرد من هؤلاء ليشعر بوجوده كإنسان له كيان ، أما عني فهناك مَنْ يعترف بإنسانيتي وإثبات وجودي كمواطنة سويدية ، وهذا ما تفعله كل الدول المتمدنة مع مَنْ يعيش معهم . في تلك الأثناء وبين السباب والشتائم اتصل أحدهم بالضابط المسئول يطلب مكالمتي وقد ساله عني ، هل تعرف العربية؟ أجابه سيدي أنها تعرفها أحسن مني ومنك ، وبأسلوب رقيق ولا أدري كيف تحول هذا المجرم وبهذه السرعة من تلك الوحشية لهذه الرقة . قال تعالي يا ضيفتنا لتكلمي المسئول ، هاتوا الشاي لعزيزتنا .
كان المتكلم مسئول كبير وبلطف أخبرني بان وكالة الأنباء الفرنسية اتصلت بهم وقد سالني إنْ كنتُ انا التي اتصلت بتلك الوكالة ، قلت لستُ انا ، وقد علمت بعد ذلك بأن المنظمات السويدية هم مَنْ اتصلوا بتلك الوكالة . شرحت له كيف اني عبرت القارات والمحيطات وكنت آمل أنْ أصل لوداع أمي التي تحتضر ولكنهم استقبلوني بكل هذه الإهانات وبكل هذا العذاب الذي لا يطاق ومن حوالي اليومين . كان الضابط يشير إليّ ويعض بأصابعه ليتوسل بأن لا أخبره بشيء ولكني واصلت كلامي ولم أُبالي به . اعتذر المسئول عما حصل لي قائلاً: أنت ابنتنا ونحن نفخر بك وبثقافتك وإن كنتِ توافقين فسأصدر أمراً وحالاً لتعيينك سفيرة وفي اي بلد تشائين . قلت له إنني لا أطلب شيئاً سوى الذهاب لأهلي لأرى ماذا حدثت لأمي ومن ثم العودة للسويد .
بعدها اتصلوا مباشرة بأهلي وطلبوا مكالمة والدي ، سمعت بأنهم سينادون عليه من الخيمة ، شعرتُ بانهيار كامل فقد عرفتُ إنّ أمي قد رحلت .أصبتُ بنوبة هستيرية وأخذت اصرخ أنتم أيها المجرمون مَنْ قتل لحظة أمل في قلبي كنتُ أمني نفسي بها لوداع أمي التي انتظرتني طويلاً . حاولوا تهدأتي ، جاءوا برزم كثيرة من النقود ، وضعوها على المائدة ، قال الضابط خذوها إلى أي فندق تختاره ، ميريديان ،شيراتون ، أشتروا لها ما تريد ، دعوها ترتاح واسهروا على راحتها إلى الغد ثم خذوها إلى أهلها . رفضتُ كل ذلك وقلت فقط خذوني لأهلي ، الآن .
وقبل أن أصل البيت وصل إكليل كبير من الورود البيضاء وكان من المسئول الكبير شخصياً في اليوم الثاني اتصلوا بي من السفارة السويدية سالوني إن كنتُ اعاني من إصابات جسدية وإن كنتُ بحاجة لطبيب .
كانت السفارة على اتصال دائم باهلي أثناء غيابي لتطمئنهم وقد حزنوا لوفاة والدتي دون أن تراني وقد أخبرتني السفيرة بأنها استلمت آلاف الرسائل من المواطنين السويديين للإستفسار عني وقد أحزنهم كثيراً عدم السماح لي برؤية والدتي في لحظاتها الأخيرة .
ملاحظة عن الكاتبة
اعتمدت في كتابة هذه القصة على معلومات نُشِرَتْ هنا في السويد ، وعلى الصحف السويدية التي كتبت الكثير عن الموضوع . وأنا أتحمل المسئولية كاملة عما كتبته .
أسماء الرومي
|
|
|
|
|
|
اشوما اد هيي واشمه اد مندا اد هيي مدخر الي اكا هيي اكا ماري اكامندا ادهيي اكا باثر نهورا بسهدوثا اد هيي وبسهدوثا اد ملكا ربا راما اد نهورا الاها اد من نافشي افرش اد لاباطل ولا مبطل اشمخ يا هيي وماري ومندا ادهيي
والحي المزكي
|
|
|
تنشر الجمعية الثقافية المندائية في هولندا لاهاي المعلومات الخاصة بها على شبكة الانترنت .
وإذا راودتك الرغبة فى اقتباس المعلومات ، أو استنساخها ، أو إعادة نشرها أو ترجمة أي أجزاء منها بغرض ترويجها على نطاق أوسع ، يرجى تبليغ الجمعية الثقافية المندائية او الاتصال بمدير الموقع وذلك بالضغط على زر مراسلتنا على الجهة اليسرى .
وتحتفظ الجمعية الثقافية المندائية بكافة حقوق الطبع والنشر الخاصة بالمواد المعروضة على صفحاتها على شبكة الإنترنت ، بما فى ذلك الصور والتصميمات والرسوم البيانية.
ويحظر استعمال مواد الموقع للاغراض التجارية او نسخها على سيديات او انتهاك شرعية الموقع .
ويعتبر استعمال اسم الجمعية وشعارها بدون الحصول على إذن بذلك مخالفاً للقانون الدولي بحقوق النشر وممنوعاً منعاً باتاً.
نحن من هذا الموقع نحاول ايصال الافكار والمقالات والتعريف بالدين الصابئي المندائي ونحن بهذا الموقع لانتخاصم مع اي جهة دينية او سياسية اخرى . لذا يحق لجميع الصابئة المندائيين بالحصول مجانا على ما في هذا الموقع بشرط مراسلتنا لنزودهم بالمسموح . ويمكن لجميع المندائيين ان يزودوننا بمقالاتهم ومواضيعهم واخبارهم المهمة و الرئيسية ( بالعربي او بالهولندي او بالانكليزي) وذلك لنشرها مجاناً على موقعنا .
© جميع الحقوق محفوظة للجمعية المندائية في هولندا دنهاخ 2010 Copyright © 2010, All rights reserved to the Mandaean Association in the Netherlands / Hague ,Inc
|
|
|
|
|
|
|
|