قدسية شجره النخيل في الديانة المندائية
تعتبر الديانة المندائية من أقدم الديانات التوحيدية ، ولغتهم اللغة الآرامية الشرقية القديمة وهي اللغة التي تحدث بها السيد المسيح ( ع ) . وتسمى النخلة في اللغة الأرامية المندائية بالسندركا ، وتتجسد قدسية النخلة في الديانة المندائية في ( عيد الفل ) الذي يصادف في شهر تشرين الأول من كل عام ، ففي مثل هذا اليوم أرسل الملاك هيبل زيوا ( الملاك جبرائيل ) الملك المقرب من العرش الألهي من جانب الله وأعطيت له المهمة لخلق الأرض وما فوقها وأول الأشجار التي خلقت كانت شجرة النخيل وقد أمر الملاك هيبل زيواأن يأكل منها وان المتاع الذي أختاره الملاك هيبل زيوا للعودة الى تلك الدنيا كان من شجرة النخيل لذلك فأن الصابئة المندائيين ينظرون الى هذه الشجرة نظرة مقدسة ، وتبركا" بذلك اليوم الذي وجدت فيه شجرة النخيل وتناول هيبل زيوا من هذه الشجرة الطاهرة يحتفلون بهذا اليوم ولأتمام هذا الأحتفال يهيئون قبل يوم من العيد كمية من التمر المعزول من النوى ويضاف إليه السمسم المحمر على النار ثم تضاف إليه بعض الحبوب المعطرة مثل حبه حلوه ويمزج الخليط جيدا" ثم يعملون منه كرات صغيرة ويأكل منها كل أفراد العائلة .
وفي غذاء الرحمة ( اللوفاني ) الذي يقيمه الصابئة المندائيين ترحما" على موتاهم وتقربا" الى الله وفلسفة ذلك هو أطعام الفقراء والجائعين حيث تجلب المغفرة لروح أمواتهم حيث تحضر الأطعمة المكونة من السمك أو الطيور ، الخبز ، البصل ، الملح و الماء ، التمر ، لب الجوز ، اللوز ، والفواكه والخضروات .
د.هشام العيداني
|
النخلة " سِندِركا " في الأدب المندائي
د. قيس مغشغش السعدي
النخل في الشجر كآدم في البشر، أول وأب، مثمر ومعمر، منتصب الهامة طويل، لا يتكاثر شرفا إلا بالفسيل، صعب المرتقى، بعيد المجتنى، كثير السلاح، شديد الكفاح، بعيد الظل، وافر النوع ، كثير العروق، بطيء النشوء، لا يتساقط ورقه، ولا يتصبب عرقه، صبور، قنوع، ذو حنو وعطاء، يشابه الإنسان في صفات، فهو ذكر وأنثى ، وهو باللقاح ، وهو جذع ورأس، وهو شغاف وقلب، موته لا يكون إلا بقطع الرأس. لم يبدل خصائصه على مرور العصور وكرور الدهور، كل ما فيه فائدة، وأعز فوائده الغذاء والدواء، فثمره الخلال والرطب والتمر، ومنه الدبس. هو المأكل والملبس، والسقف والمعبر، والسرير والحصير، والبناء والسداد، وهو مؤشر الغنى حين يـُعد العديد. ذكرته نصوص كل الأديان بأحسن الذكر، وأوردت قيمته وأوصافه كل الشرائع، وحفظت رسومه أقدم الجداريات والأسطوانات والأختام.
ونصوص الديانة المندائية من بين نصوص الأديان التي حفظت القيمة للنخل شجرا وثمرا. فالنخلة ترد في الأدب المندائي بتسميتين: الأولى " تالا" وهي مفردة مشتركة في عائلة اللغة الآرامية ، أما المفردة الأكثر شيوعا وتميزا فهي " سندركا ". ويقترن إستخدام كلمة " سندركا " بالإشارة الى معنى الفحولة ورمزا لها. إذ يرتبط ورود الكلمة في النصوص مقرونا بكلمة " أينا " التي تعني العين والنبع، كما إنها إشارة الى الأنوثة. ويكون في تعبير " أينا وسندركا " ما يفيد معنى الأنوثة والذكورة، وتعبير عن المرأة والرجل.
ويخطر لنا أن كلمة " سندركا " هي كلمة مركبة في اللغة المندائية ذلك إن كتابتها تكون بالحركة كما يلي: سينديركا. ولو قسمنا الكلمة فنجدها تحتمل التجزئة الى " سين" و " دركا ". وبما أن كلمة سين هي تسمية للقمر، وأن كلمة " دركا " تعني الطريق في اللغة المندائية، فيكون من المقبول فهم مصطلح " سندركا " على أنه طريق القمر، ربما لذلك الإرتفاع الذي يلاقي القمر حين ينظر إليها في الليالي ، وربما لمدلول آخر.
ومما يرد من تعظيم للنخلة " السندركا" في أوصافها في النصوص المندائية: " سندركا ربا: النخلة العظيمة ، سندركا هيوارا: النخلة البيضاء، سندركا إد نورا: نخلة النور، مانا وسندركا: العقل والنخل". " لبوشا إد آدم إد من سندركا نفق": لباس آدم الذي جاء من النخلة . وهذا يعني، كما أشرنا، الى أن النخلة صنو آدم عليه السلام. ومثل هذا ما يرد في التراث الإسلامي أيضا من أن النخلة قد جبلت من فضلة الطينة التي جبل منها آدم وبذلك تكون النخلة أختا لآدم وهي عَمـّة البشر!
كما أن ثمر النخلة " التمر" هو من أنواع الطعام التي يجب أن لا يخلو منه طقس مندائي فيه طعام. ومن بين هذه الطقوس مائدة الطعام التي توضع أثناء عقد القران وإجراء مراسيم الزواج حيث يكون التمر أساسي، بل أن وجوده أمر واجب. حتى أن تمرة تنقع بكمية من الماء مع الزبيب ثم تعصر وتوضع في إناء صغير وتقدم منه جرعة قليلة الى الزوج ليشربها مع قراءة دينية كإشارة ورمز الى تأكيد الفحولة وتغذية الإخصاب لبذر غرس و ذرية طيبة. والتمر أيضا مما يوصى به في الوجبة الطقسية التي يقيمها المندائيون على أرواح موتاهم بدءً من اليوم الأول للوفاة وحتى اليوم الخامس والأربعين وهو آخر يوم تمر به نفس المتوفي في مسيرة عروجها وتجاوزها المطهرات قبل أن يتاح لها أن تلتحق بعالم الأنوار حسب العقيدة المندائية. كما تقام هذه الوجبة في مناسبات دينية أخرى وكلما رغب أهل المتوفي بإجرائها للمتوفين، وهو طقس ذكر ومشاركة وتواصل مع من غادروا الى عالم الأنوار.
ولم يتوقف المندائيون عند هذا الحد من الذكر للنخلة سواء في النصوص الدينية أو الطقوس المعتمدة من قبلهم، بل أنهم أوردوا ذكرها في " الدواوين"، وهي لفائف طويلة تشرح إجراءات وتوضيحات دينية ، وتعد من الأدب الديني المندائي المهم. وتتميز هذه الدواوين بوجود الرسومات التعبيرية عن الأشياء والأحداث والحيوانات والشجر والأنهار التي يرد ذكرها. وقد تابعنا ورود ذكر " السندركا " في هذه الدواوين ووجدناه يرد في أغلبها، مع تميز البعض بالرسوم الخاصة بالنخلة. ومما تجدر الإشارة إليه أن النخلة ترد في الأدب المندائي بصيغة المذكر فيكتب: "سندركا هو" أي نخلة هو. ومما يجلب الإنتباه أيضا أن رسم النخلة الذي تكفله الناسخ المندائي منذ أن نسخ الكتب الدينية المندائية قد جاء بأشكال متعددة مع المحافظة على الخاصية العامة للنخلة من حيث منظرها العام. فقد رسم الناسخ هذه الشجرة بشكل يحاكي شكلها الطبيعي حيث الجذع المستقيم والطويل قياسا بأبعاد الشجرة، وإعتمد الناسخ شكل السعف المقطوع الذي يحيط بجذع الشجرة والذي يشكل سلما للصعود على الشجرة من أجل تلقيحها وجني ثمارها. وهذه هي الصيغة نفسها المعتمدة في بلاد ما بين النهرين في قطع سعف النخيل. وقد أخذ السعف الشكل المعروف للنخلة، إلا في بعض الرسومات حيث بدلا من أن يكون متدليا للأسفل رسمه الناسخ متجها نحو الأعلى بقصد يتطلب الوقوف عليه بحسب النصوص والتعبير الذي يخدمه.
وفي كل الأحوال فقد رسم الناسخ المندائي النخلة بشكل جميل ودقيق وجذاب وتفنن في تقديمها بما يميزها عن أشكال الأشجار والنباتات الأخرى على الرغم من قدم عملية النسخ والتي يرقى بعضها الى حوالي 2000 عاما. ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على ذلك من خلال النماذج التي صورناها لهذه الرسومات كما وردت في نسخ من هذه الدواوين. بل أن أحد هذه الرسومات يتطابق في شكله مع أشهر تصميم معماري إعتمد حديثا في الإمارات العربية المتحدة ليكون مجمّعا سياحيا أخذ شكل النخلة أيضا وسمي بإسمها، وكأن مهندسها قد شاهد صورة هذه النخلة في ديوان " ملكوثا إليثا ".
|